ثالثا:أدلة البعث في القراَن الكريم
لا شك أن التكذيب بالبعث كان من أكثر الشبهات لدى الكافرين ومن أشد العقبات التي واجهها الرسول صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة الإسلامية.. وكان للكفار مواقف متباينة من هذا الأمر العظيم حالت بينهم وبين الإسلام، ولهذا فقد أطال القراَن الكريم في الرد عليهم وإثبات حتمية القيامة.. وقد تنوعت أساليب القراَن الكريم لإقامة الحجة على المخالفين.. فإذا استحضرنا ما سبق ذكره من أن أكثر من نصف سكان الأرض الآن لا يؤمنون ببعث ولا حساب، علمنا مدى أهمية دراسة منهج القراَن الكريم في إثبات حتمية البعث ومحاولة تدبر هذه الآيات الكريمة لنقيم عليهم الحجة، ولعل الله تعالى أن يهدي بنا رجلاً واحداً فنفوز في الدنيا والآخرة. ولأن القراَن الكريم قد أطال في بيان هذه المسألة، فسنتناولها بشيء من التفصيل، وسنبدأ بإذن الله ببيان موقف الكفار من قضية البعث وأسبابه ثم نوضح الدلائل التي ساقها القراَن الكريم لحسم هذه القضية من الناحية العقلية.
أولاً: مواقف الكافرين من البعث منذ زمن التنزيل :
موقف الكافرين من البعث كان دائما هو الإنكار والتعجب والتكذيب.
(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيد) (ق / 1- 3).
ثانياً: أسباب موقف الكافرين
أسباب ذلك الموقف فقد عددها القراَن الكريم.
1- الشهوة وحب التنعم بملذات الدنيا بلا رقيب ولا حسيب:
(وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ) (الأنعام/29)
(إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) (المؤمنون/ 37)
(وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ ).(الجاثية/24)
كانت الشهوة وحب التنعم بملذات الدنيا بلا رقيب ولا حسيب هي قائدهم في هذا الاعتقاد الفاسد... فالقيامة معناها الحساب على أعمال الدنيا والتقيد بالقوانين التي سيضعها من سيحاسبك، وهم قطعا لا يحبون من ذلك شيء. ولذلك فالله تعالى الذي خلق الإنسان وركب فيه الشهوة لم يحرمه منها بإطلاق وإنما هداه لما يصلح هذه الشهوة لما ينفعه في الدنيا والآخرة وربط ذلك بعبادة الله تعالى قال سبحانه:
(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) (الأعراف/32) فنبه الله تعالى الكافرين أن إيمانهم لا يحرمهم من التمتع بالدنيا بل هو الذي سيضع لهم القوانين التي تجعلهم يتمتعون بها من غير ضرر في الدنيا ثم في الآخرة نعيم مقيم وجنات تجري من تحتها الأنهار وما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
2- الشك:
(وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ) (الجاثية/ 32).
إن أمور العقيدة لا تبنى إلا على يقين.. وادعاؤهم (الشك) في أمر يقيني لم يكن ليغني عنهم شيئاً.
ويرد الله تعالى عليهم بدعوة للتأمل في ملكوت السموات والأرض ليحدث اليقين بطلاقة قدرة الله تعالى في الخلق والبعث، قال تعالى (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) (إبراهيم/10)
3- الإعراض عن دلائل قدرة الله المطلقة في الكون وأنه على كل شيء قدير:
(وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) (يس/78)
أي من يستطيع ذلك، إعراضاً منهم عن دلائل قدرة الله تعالى، وقياسهم قوة الله على قوتهم بجهلهم وعدم إذعانهم لحقائق الكون. وقد عرض الله تعالى في الآية سبب هذا الزعم الفاسد وهو عدم التفاتهم إلى عظيم صنعة الله في خلقه لهم (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) وهذا النسيان إنما هو إعراضاً منهم عن تلك القدرة في الخلق التي تدحض شبهتهم في قدرة الله تعالى على إعادتهم وبعثهم بعد الموت.
وقد عرض القراَن الكريم شبهة جهلهم بقدرة الله في موضع اَخر لافتاً نظرهم إلى قدرة الله الظاهرة في الكون والتي تدل على طلاقة قدرته القاهرة والقادرة على بعثهم بعد الموت، قال تعالى:
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (سبأ / 7- 9).
إن هذا الخلق العظيم يحمل دلالة طلاقة قدرة الله تعالى الذي لا يعجزه شيئ في الأرض ولا في السماء.
بل هون الله عليهم الأمر فقال تعالى: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (غافر/ 57) فكيف نشاهد الآيات العظيمة في هذا الكون المشاهد، والذي تتجلى لنا في كل يوم في زمن العلم المزيد من دلائل عظمة خلقه، ثم نشك في آية أقل منها وهي الخلق أو البعث.
4- التقليد الأعمى للأمم الكافرة التي سبقتهم:
قال تعالى: (بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) (المؤمنون: آية 81- 83).
إنه التقليد المذموم من كل وجه، والذي قام على غير دليل ولا برهان ولا كتابٍ مبين.
5- الجدال باستحالة جمع أجزاء الإنسان بعد تحللها وتشتتها في باطن الأرض:
يدعي المجادلون أن الأجسام بعد موتها تتحلل إلى مكوناتها الأساسية التي قد تغيب في باطن الأرض أو تدخل في تركيب نبات يعود ليأكله حيوان.. إلى آخر تلك السلسلة الجدلية التي قد يفترضها المعاندون المكذبون فيستحيل جمع ذلك المتناثر من عهد اَدم إلى قيام الساعة في زعمهم
(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (الرعد/ 5)
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) (سبأ/ 7)
(وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ) (السجدة/10)
أي إذا تحللت أجسامنا وتاهت دقائقها في غيابات الأرض، فيكف تجمع لنبعث من جديد؟
والله تعالى يرد عليهم بدليل علمه المحيط سبحانه فيقول تعالى:
(قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ) (ق/4)
والحقيقة أن هذه الآية هي من فيض كرم الله تعالى علينا في كتابه الكريم، حيث يأخذنا في رحلة في ملكوت السموات والأرض نستصحب فيها طلاقة قدرة الله المعجزة التي تحفظ على الإنسان بعد موته مواضع غيابات دقائق جسمه مهما طال العهد ومهما تعقد الأمر. ومن رحمة الله بنا أنه لم يفصل لنا أكثر من ذلك لأن عقل الإنسان قد يقضى الساعات الطوال وهو يتأمل هذه الآية الكريمة التي لا تنقضي عجائبها، فكيف لو زاد التفصيل بما لا تحتمله عقولنا؟
ثالثاًًً: أدلة القراَن الكريم على البعث:
1- دليل عدم عبثية الخلق:
قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} (المؤمنون / 115).
|
انظر إلى المخ البشري كيف خلق الله فيه مائة وعشرين مليار خلية عصبية ترتبط كل خلية في المتوسط بنحو عشرة آلاف خلية أخرى في ترابط معجز |
هذا دليل عقلي.. إن هذا الخلق العظيم لا يمكن أن يكون عبث .. فكيف تكون نهايته إلى تراب.. فيتساوى الصالح والطالح.. القتيل والقاتل.. الظالم والمظلوم.. فيكون الأمر عبث.. بل ويكون مدعاة للفساد في الأرض.. إن عدم العبثية في الخلق تستوجب أن تكون هناك قيامة يحاسب فيها الناس على أعمالهم. أنظر إلى أي جهاز من أجهزة الجسم لتجده ليس بعبث، انظر إلى المخ البشري كيف خلق الله فيه مائة وعشرين مليار خلية عصبية ترتبط كل خلية في المتوسط بنحو عشرة آلاف خلية أخرى في ترابط معجز ليتم الشعور بالإبصار والسمع والشم واللمس وكذلك لتكون هناك قدرة على الكلام والحركة والتفكير والإدراك وتخزين ملايين الكلمات والصور والأسماء والأماكن والروائح والقدرة على تذكرها فور رؤيتها ولو بعد سنين، ومن الناس من يُسَخِرَ ذلك العطاء المبهر في الطاعة ومنهم من يسخره في المعاصي.. منهم الأنبياء والصديقين والشهداء وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي.. ومنهم هتلر وقارون وهامان.. ثم بعد ذلك يموت الإنسان ، وينتهي الأمر، فيتساوي الأخيار والفجار!؟ أليس هذا عبث؟ لقد شنع الله تعالى على من هذا ظنه
قال تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) (الجاثية آية 31)
وقال تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ) (غافر آية 58)
وقال تعالى: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) (السجدة آية 18).
وقال تعالى: (أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً )(القيامة / 36).
أي يترك هملاً وهو الذي خلقه الله تعالى بعنايته منذ كان نطفة فعلقة ثم سواه الله تعالى فجعل منه الذكر والأنثى، فإذا كان منذ بداية حياته في عناية الله ورعايته، فكيف يهمل في اَخرها؟
وعقَب الله تعالى على هذه الاَيه الكريمة {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} (المؤمنون / 115).
بهذا التعقيب الرائع في قوله سبحانه (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ) (المؤمنون / 116).
لقد نزه الله تعالى نفسه في أول الآية بقوله سبحانه ( فتعالى) فباعد بينه وبين ما يدعون بالباطل، ثم دعانا لاستحضار اسمين من أسمائه الحسنى (الملك الحق) فالملك هو الذي يضع القوانين لا أنتم والحق منزه عن باطلكم وعما تصفون.
2- دليل الخلق الأول:
قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (الروم/27)
إن الذي يخلق شيئاً أول مرة يقدر على إعادته.. بل هو على إعادته أقدر. وكلٌ عليه هين سبحانه..
وقال تعالى في الرد على المكذب المعاند:
(وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) (يس/78)